فصل: الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السابعة في بيان حكم الإقطاع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.المقالة السابعة في الإقطاعات والقطائع:

وفيها بابان:

.الباب الأول في ذكر مقدمات الإقطاعات:

وفيه فصلان:

.الفصل الأول في ذكر مقدمات تتعلق بالإقطاعات:

وفيه ثلاثة أطراف:

.الطرف الأول في بيان معنى الإقطاعات وأصلها في الشرع:

أما الإقطاعات فجمع إقطاع، وهو مصدر أقطع؛ يقال: أقطعه أرض كذا يقطعه إقطاعاً، واستقطعه إذا طلب منه أن يقطعه، والقطيعة الطائفة من أرض الخراج.
وأما أصلها في الشرع فما رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده إلى ابن سيرين عن تميم الداري أنه قال: استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً بالشام قبل أن تفتح فأعطانيها، ففتحها عمر بن الخطاب في زمانه فأتيته، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثاً لعمارتها، وثلثاً لنا.
وفي رواية: استقطعت أرضاً بالشام فأقطعنيها، ففتحها عمر في زمانه فأتيته، فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني أرضاً من كذا إلى كذا، فجعل عمر ثلثها لابن السبيل، وثلثها لعمارتها، وترك لنا ثلثاً.
وذكر الماوردي في الأحكام السلطانية: أن أبا ثعلبة الخشني رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه أرضاً كانت يد الروم فأعجبه ذلك، وقال ألا تسمعون ما يقول؟ فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك، فكتب له بذلك كتاباً. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطوه منتهى سوطه.
وذكر أن الأبيض بن حمال استقطعه ملح مأرب فأقطعه، فأخبره الأقرع بن حابس أنه في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها غيره من ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بالأرض، فاستقال الأبيض في قطيعة الملح فقال قد أقلتك على أن تجعله مني صدقة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «هو منك صدقة، وهو مثل الماء العذب من ورده أخذه».
وذكر أب هلال العسكري في كتابه الأوائل: أن أول من أقطع القطائع بالأرضين أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ولا وجه له بعد ما تقدم ذكره؛ اللهم إلى أن يريد أن عثمان أول من أقطع القطائع بعد الفتح، فإن ما أقطعه النبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الفتح كما تقدم.
قال بعد ذلك: ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم: أقطع قطائع فاقتدى عثمان به في ذلك، وأقطع خباب بن الأرت وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير، وأقطع طلحة أجمة الجرف: وهو موضع النشاستج، فكتب إلى سعيد بن العاص وهو بالكوفة أن ينفذها له.

.الطرف الثاني في بيان أول من وضع ديوان الجيش وكيفية ترتيب منازل الجند فيه والمساواة والمفاضلة في الإعطاء:

ذكر أبو هلال العسكري في الأوائل والماوردي في الأحكام السلطانية أن أول من وضع الديوان في الإسلام أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الماوردي: واختلف الناس في سبب وضعه له: فقال قوم: سببه أن أبا هريرة قدم عليه بمال من البحرين، فقال له عمر: ما جئت به؟ قال خمسمائة ألف درهم، فاستكثره عمر، وقال: أتدري ما تقول؟ قال نعم!
مائة ألف خمس مرات، فقال عمر: أطيب هو؟ قال لا أدري. فصعد عمر المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس! قد جاءنا مال كثير، فإن شئتم كلنا لكم كيلاً، وإن شئتم عددنا لكم عداً، فقام إليه رجل فقال يا أمير المؤمنين: رأيت الأعاجم يدونون ديواناً، فدون أنت لنا ديواناً.
وذهب آخرون إلى أن سبب وضع الديوان أن عمر بعث بعثاً وعنده الهرمزان، فقال لعمر هذا بعث قد أعطيت أهله الأموال، فإن تخلف منهم رجل وأخل بمكانه، فمن أين يعلم صاحبك به؟ فأثبت لهم ديواناً، فسأله عن الديوان ففسره له.
ويروى أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: تقسم كل سنة ما اجتمع إليك من المال، ولا تمسك منه شيئاً. وقال عثمان: أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يحصلوا حتى يعلم من أخذ ممن لم يأخذ، خشيت أن ينتشر الأمر- فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: قد كنت بالشام فرأيت ملوكها دونوا ديواناً وجندوا جنوداً، فدون ديواناً وجند جنوداً، فأخذ بقوله ودعا عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من شباب قريش فقال اكتبوا الناس على منازلهم! فبدأوا ببني هاشم فكتبوهم، ثم أتبعوهم أبا بكر وقومه، ثم عمر وقومه وكتبوا القبائل ووضعوها على الخلافة، ثم رفعوه إلى عمر، فلما نظر فيه، قال: لا! وما وددت أنه هكذا، ولكن ابدأوا بقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأقرب فالأقرب حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله، فشكره العباس على ذلك، وقال: وصلتك رحم.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه: أن بني عدي جاءوا إلى عمر، فقالوا: إنك خليفة أبي بكر خليفة رسول الله، فلو جعلت نفسك حيث جعلك هؤلاء القوم الذين كتبوا؟ فقال بخ بخ يا بني عدي! إن أردتم غلا الأكل على ظهري، وأن أذهب حسناتي لكم، لا والله! حتى تأتيكم الدعوة ولو انطبق عليكم الدفتر. يعني ولو أن تكتبوا آخر الناس. إن صاحبي سلكاً طريقاً، فإن خالفتهما خولف بي؛ والله ما أدركنا الفضل في الدنيا والآخرة، ولا نرجوا الثواب عند الله على علمنا إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهو أشرفنا، وقومه أشرف العرب، ثم الأقرب فالأقرب؛ ووالله لئن جاءت الأعاجم بعمل وجئنا بعمل دونهم، لهم أولى بمحمد صلى الله عليه وسلم منا يوم القيامة: فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه.
وروي أن عمر رضي الله عنه حين أراد وضع الديوان، قال: بمن أبدأ؟ فقال له عبد الرحمن بن عوف: ابدأ بنفسك، فقال عمر: أذكر أني حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبدأ ببني هاشم وبني عبد المطلب؛ فبدأ بهم عمر، ثم بمن يليهم من قبائل قريش بطناً بعد بطن، حتى استوفى جميع قريش، ثم انتهى إلى الأنصار، فقال عمر: ابدأوا برهط بن معاذ من الأوس ثم بالأقرب فالأقرب لسعد.
وأما المساواة والمفاضلة في العطاء فقد اختلف فيه: فكان أبو بكر رضي الله عنه يرى التسوية بينهم في العطاء ولا يرى التفضيل بالسابقة كما حكاه عنه الماوردي في الأحكام السلطانية.
قال أبو هلال العسكري في الأوائل وقد روي عن عوانة أنه قال: جاء مال من البحرين إلى أبي بكر رضي الله عنه فساوى بين الناس، فغضبت الأنصار، وقالوا له: فضلنا، فقال: إن أردتم أن أفضلكم فقد صار ما عملتوه للدنيا، وإن شئتم كان ذلك لله، فقالوا: والله ما عملنا إلا لله! وانصرفوا؛ فرقى أبو بكر رضي الله عنه المنبر؛ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأنصار لو شئتم أن تقولوا: إنا آويناكم وشاركناكم أموالنا ونصرناكم بأنفسنا لقلتم، وإن لكم من الفضل ما لا يحصى له عدد، وإن طال الأمد، فنحن وأنتم كما قال الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ** بنا نعلنا في الواطئين فزلت

أبو أن يزلونا ولو أن أمنا ** تلافي الذي لاقوه منا لملت

هم أسكنونا في ظلال بيوتهم ** ظلال بيوت أدفأت وأكنت

قال الماوردي: وإلى ما أرى أبو بكر رضي الله عنه ذهب علي رضي الله عنه في خلافته، وبه أخذ الشافعي ومالك.
وكان عمر رضي الله عنه يرى التفضيل بالسابقة في الدين، حتى إنه ناظر أبا بكر رضي الله عنه في ذلك، حين سوى بين الناس، فقال: أتساوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين وبين من أسلم عام الفتح خوف السيف؟!- فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ للراكب، فقال له عمر: لا أجعل من قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم كمن قاتل معه؛ فلما وضع الديوان جرى على التفضيل بالسابقة؛ ففرض لكل رجل شهد بدراً من الأنصار أربعة آلاف درهم، ولكل رجل هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم، ولكل رجل هاجر بعد الفتح ألفين؛ وفرض لغمان أحداث من أبناء المهاجرين والأنصار أسوة من أسلم بعد الفتح؛ وفرض للناس على منازلهم، وقراءتهم القرآن، وجهادهم بالشام والعراق؛ وفرض لأهل اليمن وقيس: لكل رجل من ألفي درهم إلى ألف درهم، إلى خمسمائة درهم، إلى ثلثمائة درهم، ولم ينقص أحداً عنها، وقال: لئن كثر المال لأفرضن لكل رجل أربعة آلاف درهم: ألفاً لفرسه، وألفاً لسلاحه، وألفاً لسفره، وألفاً يخلفها في أهله؛ وفرض للمنفوس مائة درهم، فإذا ترعرع فرض له مائتين، فإذا بلغ زاده. وكان لا فرض للمولود شيئاً حتى يفطم، إلى أن سمع ليلة امرأة تكره ولدها على الفطام، وهو يبكي، فسألها عنه- فقالت: إن عمر لا يفرض للمولود حتى يفطم فأنا أكرهه على الفطام حتى يفرض له- فقال يا ويح عمر! كم احتقب من وزر وهو لا يدري؛ ثم أمر منادياً فيناد: ألا لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنا نفرض لكل مولود في الإسلام. قال الماوردي: ثم روعي في التفضيل عند انقراض أهل السوابق التقدم في الشجاعة والبلاء في الجهاد.
وأما تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة. ثم الكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه: أحدها عدد من يعوله من الذراري والمماليك- والثاني عدد ما يرتبط من الخيل والظهر- والثالث: الموضع الذي يحله في الغلاء والرخص فتقدر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كله. ثم تعتبر حاله في كل عام، فإن زادت نفقاته زيد، وإن نقصت نقص؛ فلو تقدر رزقه بالكفاية، فمنع الشافعي من زيادته على الكفاية وإن اتسع المال، لأن أموال بيت المال لا توضع إلا في الحقوق اللازمة؛ وأجاز أبو حنيفة زيادته حينئذ.

.الطرف الثالث في بيان من يستحق إثباته في الديوان وكيفية ترتيبهم فيه:

فأما من يستحق إثباته في الديوان، ففيه خمسة أمور: أحدها- البلوغ. فلا يجوز إثبات الصبي في الديوان؛ وهو رأي عمر رضي الله عنه، وبه أخذ الشافعي رضي الله عنه، بل يكون جارياً في جملة عطاء الذراري.
الثاني- الحرية. فلا ثبت في الديوان مملوك، بل يكون تابعاً لسيده داخلاً في عطائه، خلافاً لأبي حنيفة فإنه جوز إفراد المملوك بالعطاء؛ وهو رأي أبي بكر رضي الله عنه.
الثالث- الإسلام، ليفع عن الملة باعتقاده، حتى لو أثبت فيهم ذمي لم يجز، ولو ارتد منهم مسلم سقط.
الرابع- السلامة من الآفات المانعة من القتال. فلا يجوز أن يكون زمناً ولا أعمى ولا أقطع، فلا ويجوز أن يكون أخرس أو أصم. أما الأعرج، فإن كان فارساً جاز إثباته أو راجلاً فلا.
الخامس- أن يكون فيه إقدام على الحرب ومعرفة بالقتال، فإن ضعفت همته عن الإقدام، أو قلت معرفته بالقتال لم يجز إثباته.
فإذا وجدت فيه هذه الشروط، اعتبر فيه خلوه عن عمل وطلبه الإثبات في الديوان؛ فإذا طلب فعلى ولي لأمر الإجابة إذا دعت الحاجة إليه. ثم إن كان مشهور الاسم فذاك، وإلا حلي ونعت، بذكر سنه وقده ولونه وصفة وجهه، ووصف بما يتميز به عن غيره، كي لا تتفق الأسماء، أو يدعي في وقت العطاء، ثم يضم إلى نقيب عليه أو عريف يكون مأخوذاً بدركه.
وأما ترتيبهم في الديوان فقد جعلهم الماوردي في الأحكام السلطانية على ضربين:
الضرب الأول- الترتيب العام. وهو ترتيب القبائل والأجناس حتى تتميز كل قبيلة عن غيرها وكل جنس عمن يخالفه، فلا يجمع بين المختلفين، ولا يفرق بين المؤتلفين: لتكون دعوة الديوان على نسق معروف النسب يزول فيه التنازع والتجاذب. فإن كانوا عرباً روعي فيهم القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما فعل عمر رضي الله عنه: فتقدم العرب المستعربة: وهم عدنان من ولد إسماعيل عليه السلام، على العرب العاربة: وهم بنو قحطان عرب اليمن: لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عدنان. ثم عدنان تجمع ربيعة ومضر؛ فتقدم مضر على ربيعة: لأن النبوة في مضر، ومضر تجمع قريشاَ وغير قريش على غيرهم: لأن النبوة فيها فيكون بنو هاشم هم قطب الترتيب، ثم يليهم من أقرب الأنساب إليهم حتى يستوعب قريشاً، ثم من يليهم في النسب حتى يستوعب جميع مضر، ثم من يليهم حتى يستوعب جميع عدنان.
وإن كانوا عجماً لا يجتمعون على نسب، فالمرجوع إليه في أمرهم: إما أجناس وإما بلاد؛ فالمميزون بالأجناس كالترك والهند؛ ثم تتميز الترك أجناساً، والهند أجناساً. والمميزون بالبلاد: كالدليم والجبل؛ ثم تميز الدليم بلداناً، والجبل بلداناً. فإذا تميزوا بالأجناس أو البلدان: فإن كانت لهم سابقة ترتبوا عليها في الديوان، وإن لم تكن لهم سابقة ترتبوا بالقرب من ولي الأمر؛ فإن تساووا فبالسبق إلى طاعته.
الضرب الثاني- الترتيب الخاص: وهو ترتيب الواحد بعد الواحد، فيقدم فيه بالسابقة بالإسلام كما فعل عمر رضي الله عنه؛ فإن تساووا ترتبوا بالدين؛ فإن تقاربوا فيه رتبوا بالسن؛ فإن تقاربوا بالسن رتبوا بالشجاعة؛ فإن تقاربوا فيها، كان ولي الأمر بالخيار بين أن يرتبهم بالقرعة أو على رأيه واجتهاده.

.الفصل الثاني من الباب الأول من المقالة السابعة في بيان حكم الإقطاع:

قال في الأحكام السلطانية: وإقطاع السلطان مختص بما جاز فيه تصرفه، ونفذت فيه أوامره، دون ما تعين مالكه وتميز مستحقه.
الضرب الأول إقطاع التمليك والأرض المقطعة بالتمليك إما موات، وإما عامر، وإما معدن. فأما الموات فإن كان لم يزل مواتاً على قديم الزمان، لم تجر فيه عمارة، ولم يثبت عليه ملك، فيجوز للسلطان أن يقطعه من يحييه ويعمره. ثم مذهب أبي حنيفة أن إذن الإمام شرط في إحياء الموات؛ وحينئذ فيقوم الإقطاع فيه مقام الإذن. ومذهب الشافعي أن الإقطاع يجعله أحق بإحيائه من غيره. وعلى كلا المذهبين يكون المقطع أحق بإحيائه من غيره.
وأما إن كان الموات عامراً فخرب وصار مواتاً عاطلاً، فإن كان جاهلياً: كأرض عاد وثمود، فهي كالموات الذي لم تثبت فيه عمارة في جواز إقطاعه.
قال صلى الله عليه وسلم: «عادت الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم مني، يعني أرض عاد».
وإن كان الموات إسلامياً جرى عليه ملك المسلمين، ثم خرب حتى صار مواتاً عاطلاً، فمذهب الشافعي أنه لا يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا؛ ومذهب مالك أنه يملك بالإحياء، عرف أربابه أم لم يعرفوا؛ ومذهب أبي حنيفة أنه إن عرف أربابه لم يملك بالإحياء، وإلا ملك. ثم إذا لم يجز أن يملك بالإحياء على مذهب الشافعي، فإن عرف أربابه لم يجز إقطاعه، وإن لم يعرفوا جاز إقطاعه وكان الإقطاع شرطاً في جواز إحيائه؛ فإذا صار الموات إقطاعاً لمن خصه الإمام به لم يستقر ملكه عليه حتى يحييه ويكمل إحياؤه، فإن أمسك عن إحيائه كان أحق به يداً وإن لم يصر له ملكاً.
وأما العامر: فإن تعين مالكوه، فلا نظر للسلطان فيه إلا ما تعلق بتلك الأرض من حقوق بيت المال إذا كانت في دار الإسلام، سواء كانت لمسلم أو ذمي، وإن كانت في دار الحرب التي لم يثبت عليها للمسلمين يد جاز للإمام أن يقطعها ليملكها المقطع عند الظفر بها، كما أقطع النبي صلى الله عليه وسلم تميماً وأصحابه أرضاً بالشام قبل فتحه، على ما تقدم ذكره في أول الباب.
وإن لم يتعين مالكوه: فإن كان الإمام قد اصطفاه لبيت المال من فتوح البلاد: إما بحق الخمس، أو باستطابة نفوس الغانمين، لم يجز إقطاع رقبته: لأنه قد صار باصطفائه لبيت المال ملكاً لكافة المسلمين، فصار على رقبته حكم الوقف المؤيد؛ والسلطان فيه بالخيار بين أن يستغله لبيت المال وبين أن يتخير له من ذوي المكنة والعمل من يقوم بعمارة رقبته، ويأخذ خراجه، ويكون الخراج أجرة عنه تصرف في وجوه المصالح.
وإن كان العامر أرض خراج لم يجز إقطاع رقابها تمليكاً.
وأما إقطاع خراجها فسيأتي في إقطاع الاستغلال فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
وإن كان الموات قد مات عنه أربابه من غير وارث، صار لبيت المال ملكاً لعامة المسلمين بمجرد الانتقال إلى بيت المال، لا يجوز إقطاعها ولا بيعها. وقيل: لا تصير وقفاً حتى يقفها الإمام؛ ويجوز للإمام بيعها إذا رأى فيه المصلحة ويصرف ثمنها في ذوي الحاجات. ثم قيل: يجوز إقطاعها كما يجوز بيعها، ويكون تمليك رقبتها بالإقطاع كتمليك ثمنها. وقيل: لا يجوز إقطاعها وإن جاز بيعها: لأن البيع معاوضة والإقطاع صلة.
الضرب الثاني من الإقطاع إقطاع الاستغلال فأما الخراج: فإن كان من يقطعه الإمام من أهل الصدقات لم يجز أن يقطع مال الخراج: لأن الخراج فيء لا يستحقه أهل الصدقة ما لا يستحق الصدقة أهل الفيء؛ وأجاز إقطاعه أبو حنيفة.
وإن كان من أهل المصالح ممن ليس له رزق مفروض فلا يصح أن يقطعه على الإطلاق، وإن جاز أن يعطى من مال الخراج: لأنهم من نفل أهل الفيء لا من فرضه، وما يعطونه إنما هو من غلات المصالح؛ فإن جعل لهم من مال الخراج شيء أجري عليه حكم الحوالة لا حكم الإقطاع.
وإن كان من مرتزقة أهل الفيء وهم أهل الجيش، فهم أخص الناس بجواز الأقطاع: لأن لهم أرزاقاً مقدرة تصرف إليهم مصرف الاستحقاق، من حيث إنها أعواض عما أرصدوا نفوسهم له من حماية البيضة والذب عن الحريم.
ثم الخراج: إما جزية وهو الواجب على الجماجم، وإما أجرة وهو الواجب على رقاب الأرض. فإن كان جزية لم يجز إقطاعه أكثر من سنة، لأنه غير موثوق باستحقاقه بعدها لاحتمال أن يسلم الذمي فتزول الجزية عنه. وإن كان أجرة جاز إقطاعه سنين لأنه مستقر الوجوب على التأبيد.
ثم له ثلاث أحوال: إحداها- أن يقدر بسنين معلومة، كما إذا أقطعه عشر سنين مثلاً، فيصح، بشرط أن يكون رزق المقطع معلوم القدر عند الإمام، وأن يكون قدر الخراج معلوماً عند الإمام وعند المقطع، حتى لو كان مجهولاً عندهما أو عند أحدهما لم يصح. ثم بعد صحة الإقطاع يراعى حال المقطع في مدة الإقطاع: فإن بفي إلى إنقضاء مدة الإقطاع على حال السلامة فهو على استحقاق الإقطاع في المدة الباقية، ويعود الإقطاع إلى بيت المال. وإن كان له ذرية دخلوا في عطاء الذراري دون أرزاق الأجناد، ويكون ما يعطونه تسبباً لا إقطاعاً. وإن حدث بالمقطع زمانة في تلك المدة ففي بقاء الإقطاع قولان: أحدهما أن إقطاعه باق عليه إلى انقضاء المدة والثاني أنه يرتجع منه. الثانية- أن يقطعه مدة حياته ثم لعقبه وورثته بعد موته، فلا يصح: لأنه يخرج بذلك عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، فلو قبض منه شيئاً برئ أهل الخراج بقبضه: لأنه عقد فاسد مأذون فيه ويحاسب به من جملة رزقه: فإن كان أكثر رد الزيادة، وإن كان أقل رجع بالباقي؛ وعلى السلطان أن يظهر فساد الإقطاع حتى يمتنع هو من القبض ويمتنع أهل الخراج من الدفع ولم يبرأوا بما دفعوه إليه حينئذ.
الثالثة- أن يقطعه مدة حياته. ففي صحة الإقطاع قولان للشافعي بالصحة والبطلان؛ ثم إذا صح الإقطاع فللسلطان استرجاعه منه بعد السنة التي هو فيها، ويعود رزقه إلى ديوان العطاء. أما السنة التي هو فيها: فإن حل رزقه فيها قبل حلول خراجها لم يسترجع منه في سنته لاستحقاق خراجها في رزقه، وإن حل خراجها قبل حلول رزقه جاز استرجاعه منه: لأن تعجيل المؤجل ولأن كان جائزاً فليس بلازم. وأما العشر فلا يصح إقطاعه، لأنه زكاة الأصناف، فيعتبر وصف استحقاقهم عند دفعها إليهم؛ وقد يجوز أن لا يوجد فلا تجب.
قلت: هذا حكم الإقطاع في الشريعة، وعليه كان عمل الخلفاء والملوك في الزمن السالف؛ أما في زماننا فقد فسد الحال وتغيرت القوانين، وخرجت الأمور عن القواعد الشرعية، وصارت الإقطاعات ترد من جهة الملوك على سائر الأموال: من خراج الأرضين، والجزية، وزكاة المواشي، والمعادن، والعشر، وغير ذلك. ثم تفاحش الأمر وزاد حتى أقطعوا المكوس على اختلاف أصنافها، وعمت بذلك البلوى؛ والله المستعان في الأمور كلها.